مقالات

عضيد العمر

أ. هشام نتو

ما أجمل العلاقات إن صفت النفوس، وما أجمل الأرواح إن سكنت الجنان فأصبحت جزءًا جسديًا خالدًا لا يُفرط فيه ولا يُستغنى عنه.

تسمو العلاقات بسمو سلوك أطرافها، وتُبنى بجميل صنيعها، فتبلغ عنانها بشيم خصالها وكريم سجاياها.

فالعلاقات البشرية تتنوع بتنوع أطرافها ومقاصدها، فتبدأ بالأسرة وتكتمل من دائرتها، ثم محيطها وتتعدى نطاقها بمتطلبات الحياة، فلا يكون لها حدود ولا مسافات. وليس منا إختيار تواجدها، بل تصفية الجميل من سوادها، فتجد الأب صديق إبنه، والأم صديقة إبنتها كأول علاقة للأبناء، فيكون مما يرسم شخصيتهم ويُسقل سجاياها.

يشعرون فيها بالصحبة والصداقة وصدق المشاعر وسرية الحديث وفكاهة المواقف ونكت الحياة، فالأسرة هي اللبنة الأساسية في وضع الأبناء على طريق إختيار الصحبة والرفقة، ويكونون مستشارين لهم.

ثم تتسع بين أبناء العم والخال والعمات والخالات، وتتسع إلى خارج حدود الأسرة بدءاً من المراحل التعليمية مرورًا بمحيط العمل أو التجارة، ثم بصحبة الجيران والحي والمجتمع، وتتسع حسب نمط الشخصيات والمقاصد.

فالعلاقات الإجتماعية ليس لها حدود، فقد تكون مبنية لمقاصد وقتية أو مراحل دراسية أو مهنية. وأطولها وأكثرها إستمراراً من تكون صافية الجنان، وإن أختلف أطرافها فالرابط الأصيل موجود.

ولكن أسمى تلك العلاقات والصداقات هو ما يكون قريباً من الفؤاد يلامس الروح ولا يغيب عن الأذهان، وإن غاب عن الأعين فيشعر به طرفه الآخر، ويكون قريباً بحسه وحدسه، يسنده في شدائده، ويؤازره في كبوته، ويفرح لسعادته. إنه شخص وليس أي شخص، فهو “عضيد العمر”.

“عضيد العمر” هو من يُعتمد عليه في الأزمات والمحن، والذي يقف إلى جانبك ويساندك بقوة. فهو من تُوثق فيه ويؤتمن، فهو سند ومعين بعد الله عز وجل.

“العضيد” في اللغة هو الجزء العلوي من الذراع، وهو رمز القوة والدعم، وهو متواجد في حياتنا بصور شتى. فتجده في الأسرة كالأب والأم والإخوان والأخوات، فتجده بجانبك في أزماتك. ويكون من “الأصدقاء”، فتجده الأقرب منهم إليك بجميل صنيعه، وحاضراً مقدماً للنصيحة والدعم. وفي الجانب “العاطفي والمهني والقيادي”، فيكون مرشدك ومساندك وداعمك الإستراتيجي والفكري. وقد تجده “عضيداً إنسانياً ” في صورة شخص أو مجموعة، هم كثر، ولكن هو من يرزقك الله به وتضعه الظروف والمواقف أمامك وين يديك يظهر بدون طلب ويبقى بإرادتك، فينجلي السواد ويتشتت الغبار، فيظهر جلياً لامعاً كالجوهرة السوداء تلمع تحت ضي القمر وتنير صباحاً منيراً.

وأكثر “عضيد” تفرح به وتسعد لرؤيته وتشتاق له في غيابه، هو من يكون من صلبك ينشأ أمام ناظريك، وتفتخر به أمام الورى، فيكون بدراً يضيء ليلك وشمساً تنير صباحك، يعيد لك معروفك معه، ويساندك في بلوغ شَدِّك عنده. هم من أبنائك أو بناتك على حد سواء.

فيكونوا لك السند والعضيد بعد الله عز وجل. كيف لا وقد أنشأته على كريم السجايا ونبل الأخلاق التي تتبلور بها الشخصية وتُسقل، لأنها تربت على تعزيز التعاون والمساندة وغرس مفهوم المسؤولية والصدق والنزاهة، بالإضافة إلى تعليمه وتدريبه على القيادة الإيجابية، والتي تجمع بين القوة والرحمة، فيكون مبدعًا في عمله وملهمًا لغيره.

أيضاً، ملازمته بالتوجيه البناء البعيد عن التوبيخ والتجريح، مع تعويده على الإستماع الفعّال وممارسة الذكاء العاطفي لتنمية قدراته لفهم مشاعر الآخرين. وليس ذلك فقط، بل كلما أنخرط في التجارب العملية والأنشطة الإجتماعية وتدرج في المسؤوليات، زادت ثقته بنفسه وطُوِّرت قدراته على المساندة والدعم النفسي والإستقلاليه . فيكون بالتشجيع على إتخاذ القرارات مما يثبت قدمه ويقوي خطوته.

فالعضيد لا يختص به ذكرٌ عن أنثى ولا أسود على أبيض. ففي تاريخنا نماذج تُذكر ويفتخر بها، فقد ذُكرت مواقف للنساء دعمن فيها رجالهن، والعكس أيضًا، وبين أبناء الجنس كذلك. فالمعروف ليس له وجه سوى البذل لمن يحتاجه، وليس له من أمر الدين ما يمنع تقديمه، فكرم الأخلاق وعطاء النفس ليس له حدود إلا من حرم نفسه ذلك.

فشخصية العضيد تفرض وجودها بحسن صنيعها وجميل مروءتها وصدق صحبتها، فيُحفظ له مكانة بين العظماء ممن سكنوا الروح واقتسموا السعادة مع وليف روحهم، فتتشبث بها الأنفس بطهارة روحهم وسمو سجاياهم وكرم أخلاقهم.

قال أبو فراس الحمداني:
ليس الغباء بوسيلة ** للمجد يُعرف كيف يُطلب
وقد يُحاز المجد بالعضيد ** فلا تخف لوماً ولا ريب

يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: “المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا”.

وقال الله عز وجل على لسان موسى عليه السلام: [واجعل لي وزيرًا من أهلي * هارون أخي * أشد د به أزري].

وقال الله عز وجل: [الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين].

إن بناء شخصية العضيد في الأسرة يصنع جيلاً يافعاً متميزًا ينتج أجيالًا نعيد بها أمجاد أمم وتاريخ حضارات، يسمو بكريم خصالهم وبديع صنيعهم من بذل في الخير وسعي في المعروف. فالأيام العصيبة تصنع رجالًا أشداء، بعكس الأيام الهانئة التي تصنع أجيالًا رخوة لا يُعتمد عليهم. يأتي من بعدهم أيام عصيبة تضيع ولا تُكسب، فالوسطية وخلق التوازن يكمنان في حسن التربية وحسن التصرف والصحبة الحسنة.

مقالات ذات صلة

‫5 تعليقات

  1. ما شاء الله.
    مقال واضح و يركز على موضوع هام في مجتمعنا المحلي الاسلامي.
    لذا يجب الترابط والتعاون في الحفاظ عليه.
    طرح موفق اخي.

  2. بيض الله وجهك اخي ابو انس على هذا المقال الجميل والرائع والذي يتكلم عن العضيد فهو كل شي بالنسبه لك وقت الرخاء والشده وفقك الله زرعاك ولك مني تحيه واحترام

    عضيد قلبّي و الضلوع الرهايف
    على متونك يرسي العمـر فينـي
    سلمت اناملك ابو انس

  3. كاتب مميز اخي هشام فمقالك يسلط الضوء على أهمية العلاقات الإنسانية التي تتسم بالصفاء والإخلاص، وخاصة دور الأسرة في تشكيل شخصية الأبناء وصقل أخلاقهم.
    يؤكد أن “عضيد العمر” ليس مجرد شخص، بل رفيق حقيقي يقف بجانبك في كل الظروف.
    العلاقات تبنى على الدعم المتبادل وتخلد بمواقفها النبيلة والمحبة الصادقة.

  4. ماشاءالله تبارك الله سلمت يداك أستاذ هشام
    مقال جميل بارك فيك يدل على مدى اطلاعك
    وغزير ثقافتك سلمت أفكارك كاتبنا المبدع
    موضوع جميل كيف لا وهو يحث على الحفاظ على العضيد وخصوصاُ الأخ دايماً يقال عنه الساعد الأيمن.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى