الرئيسيةالعالمالمجتمعدوليهسياسة

ذكرى الإبادة العرقية الألمانية في ناميبيا

Listen to this article

في لحظة استثنائية من التاريخ الحديث، أحيت ناميبيا ولأول مرة رسميًا، ذكرى واحدة من أبشع الجرائم الاستعمارية التي ارتكبت في إفريقيا، والتي طالما وُصفت بأنها “الإبادة الألمانية المنسية”. ففي الثامن والعشرين من مايو، وقف الناميبيون دقيقة صمت، وأضاءوا الشموع أمام البرلمان في ويندهوك، مستذكرين مذبحة وحشية راح ضحيتها أكثر من 70 ألفًا من شعبي أوفاهيريرو وناما بين عامي 1904 و1908، على يد المستعمرين الألمان.

هذه الذكرى لم تأتِ فقط لتخليد الماضي، بل لتسليط الضوء على جراح مفتوحة لم تندمل. فقد لجأ المستعمرون الألمان في ما كان يُعرف حينها بجنوب غرب إفريقيا إلى تنفيذ سياسات إبادة منهجية لم تعرف الرحمة. أمرٌ صريح بالإبادة أصدره الجنرال لوثار فون تروثا يقضي بعدم قبول أي استسلام من الأهالي، بل بقتل كل من يُلقى عليه القبض، رجالًا ونساءً، مهما كانت أعمارهم أو ظروفهم. وقد وصفت المؤرخة الناميبية مارثا أكاوا-شيكوفا هذه الأوامر بأنها “إعلان بموت بلا استثناء”.

في معسكرات الاعتقال التي أنشئت حينها، فُرضت على الأسرى أعمال شاقة حتى الموت. وشهادات الوفاة الجاهزة كانت تُطبع مسبقًا بعنوان “الموت بسبب الإرهاق”، في اعتراف ضمني بأن هؤلاء البشر لم يكن يُنتظر منهم إلا أن يموتوا. بل إن بعض رفات الضحايا شُحن إلى ألمانيا لإجراء تجارب “علمية” زائفة تهدف إلى تبرير تفوق العرق الأبيض.

بعد أكثر من قرن من الصمت والتجاهل، اعترفت ألمانيا رسميًا في عام 2021 بوقوع إبادة جماعية، وعرضت مساعدات إنمائية بقيمة 1.1 مليار يورو تُدفع على مدى ثلاثين عامًا، دون استخدام مصطلحي “تعويضات” أو “اعتذار رسمي” في نص الاتفاق. هذا العرض قوبل بالرفض من جانب الحكومة الناميبية، ووصفه نشطاء من شعبي أوفاهيريرو وناما بأنه “إهانة لذكرى أسلافهم”، خاصة بعد أن تم استبعادهم من طاولة المفاوضات.

ورغم صياغة مسودة اتفاق لاحقة تتضمن اعتذارًا رسميًا وزيادة في المبلغ المقترح، لا تزال كثير من الأصوات ترى أن العدالة الحقيقية لم تتحقق بعد. فالمجتمعات المتضررة تطالب بإعادة أراضي الأجداد التي صودرت قسرًا، وتراها جزءًا لا يتجزأ من أي مسار نحو عدالة تصالحية حقيقية.

وفي مفارقة لافتة، تشير تقارير إلى أن ألمانيا نفسها أجبرت شعبي أوفاهيريرو وناما على دفع ما يُعرف بـ”تعويضات” في بداية القرن الماضي – على هيئة 12 ألف بقرة – بدلًا من أن تعوّضهم هي. واليوم، يقدّر المؤرخون قيمة تلك الأبقار بأسعار العصر الحديث بما يصل إلى 8.8 ملايين دولار، وهي فاتورة لم تُدرج بعد في حسابات التاريخ أو العدالة.

ومع كل ذكرى جديدة، تتجدد مطالب الناميبيين، ليس فقط بالاعتراف، بل بالاعتذار والتعويض العادل، وردّ الكرامة لأرواح أُزهقت ظلمًا، في إبادة جماعية كانت بلا رحمة… وما زال صداها المؤلم يدوّي حتى اليوم.

محمد محمود الشيباني

عضو هيئة التحرير _ مدير مكتب المغرب العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى