ظلّ جدتي

أ. تركي الحربي
لم أكن أدرك وأنا طفل صغير، أن دفء يديها حين تمسك بيدي سيظلّ يطاردني حين أكبر، كذكرى لا تموت.
جدتي، تلك السيدة التي لم تكن فقط جدة، بل كانت أمي الثانية، صديقتي، حائطي الذي أسند عليه ضعفي، ومصدر الضوء في أيامي الرمادية.
كانت تستقبلني كل صباح بإبتسامة لا تشيخ، وتهمس لي بحكايات من زمن لم أعشه، لكنها كانت تجعلني أشعر كأنني كنت هناك، أعيشها معها.. تحكي لي عن الريف، عن أيام المطر، عن الفصول الأربعة عن تفاصيلها، وعن الألم بصوت لا يرتجف، وكأنها كانت تحميني حتى من وجعها.
كبرت وأنا أظنّ أنها لن تغيب.. لم أتصور أن قلباً كهذا يمكن أن يتوقف.. لكنها رحلت.. بهدوء يشبه طريقتها في إغلاق باب غرفتها حين كانت تدعو لي قبل النوم بصوت هادئ.
حين مرضت، لم أصدق أن أمرأة قوية مثلها يمكن أن تضعف.. لكن جسدها الصغير بدأ ينهار ببطء.. كنت أزورها كل يوم، أجلس إلى جوارها، أروي لها ما تحب أن تسمعه عن أخبار ٍ سارة عن حال من هم حولها، حتى يسكن الهدوء في نفسها، وعندما ترفض الطعام من الجميع أخبرها بأني في جوعٍ شديد وارغب أن نتشارك في الأكل وتوافق بفرح وشوق رغم ألم المرض وشدته.
خشيت عليها كثيراً لم أترك وسيلة طب إلا وأحضرتها لها، ولم أترك باب مستشفى إلا وطرقته من أجلها، وجدت من خوفي عليها إهتمام كل طبيب وكل مسؤول صحي يبحث عن أسباب شفائها معي، حتى أعتادت في أشد الألم والمرض لا ترغب في غيابي أبداً.
وعندما احيلت لمستشفى خارج المنطقة وأنا بجانبها لإستعداد إطلاعها لطائرة الإخلاء الطبي، أقبل أحد الأطباء للتأكد من وعيها فسألها من هذا ” قالت إنه أبني أبني” ولم أغيب عن ذاكرتها أبداً ولم أتحمل موقف كلماتها تسابقت من عيني الدموع والدعوات لها بالشفاء.
في أيامها الأخيرة، كانت تكتفي بالنظر إليّ طويلاً. عيناها أمتلأتا بالدموع، لكنها لم تكن تشكو، وعندما أبادر بالسؤال عن حالها تكتفي بقول ” الحمد لله أنا بخير ” وذلك حتى تزرع في نفسي الطمأنينة عليها.
وقبل يومها الأخير وهي على السرير الأبيض قد أشحب لونها وضعف جسدها بين تلك الأجهزة الطبية.. مدت يدها، أمسكت بيدي بقوة، وتحدث بكأها الذي لم يغيب عن ذهني أبداً.. وكأنها تنقل لي ما تبقى من روحها.. لم تقل شيئاً ، لكن كل ما قالته لي طوال العمر كان في تلك القبضة.
ماتت جدتي، وبقيت بين الشوق وألم رحيلها.. أشتاقها في التفاصيل الصغيرة: حين أمرض ولا أجد يديها على جبيني، او إتصالها المستمر للإطمئنان علي، حين أسمع الحكايات ولا أجد من يناقشني فيها، حين أشعر بالضعف ولا أجدها، وعندما أنوي السفر وأفتقد الوداع منها والدعاء والدموع المعبرة وكأنها تقل لا تتأخر علي في سفرك.
ماتت جدتي، ومات شيء بداخلي.. لم أعد أجد ذاك الدعاء الصباحي، ولا صوتها يناديني، ولا رائحتها في البيت، لم يبقى لي إلا الذكريات التي تمزق القلب حزناً عليها.
كل شيء فيها كان بسيطاً، لكنه عظيم: طريقة ضحكتها، قهوتها التي تصنعها بطريقة مختلفة عن الجميع، حتى صمتها كان مريحاً، كأن فيه دعاءً خفياً يحميني من العالم.
أقف أحياناً أمام صورتها وأتحدث، كأنها لا تزال تسمعني.. أقول لها عن يومي، عن أحلامي التي بدأ بعضُها يتحقق، وأشكو لها وجعي.. أحياناً أبكي، وأحياناً أبتسم حين أتذكر كيف كانت تمسح دموعي وتقول: “الرجال لا يبكون كثيراً.. لكن دمعتك غالية يا حبيبي”.
جدتي لم تكن فقط من ربتني، بل كانت الحياة حين كانت الحياة قاسية.. كانت الجنة حين ضاق عليّ العالم.
وكل ما بقي مني الآن، هو ظلّها في قلبي، وحنين لا يهدأ.