مقالات

رحلة من فصل مكتظ إلى فضاء يفيض إشراق

Listen to this article

المهندس/ حسن بن عتيق الزهراني 

للتخيّل فنونه، ولعلّي أفلحت في رسم هذا التصوّر: في اللحظة التي يخطو فيها الطالب إلى حجرة الدراسة المكتظّة، يعبر عتبة عالمٍ آخر، فيجد نفسه بين حشدٍ من الطلاب، زحامٌ خانق يضيق عليه، أكثر من أن يتّسع للأفكار.. مقاعد متلاصقة، أكتاف ورؤوس متراصّة تحجب السبورة والهواء، وعيون تبحث عن موطئ نظر. في هذه الحالة يُصبح الطالب مجرّد جسدٍ مضغوط من كل جانب، فكيف يُصغي ويستوعب؟ وعندما يهمّ أن يسأل عن معلومة، يتردّد السؤال ثم يعود أدراجه، لأن الطريق إلى المعلّم شاقّ ووعر.

في هذه الغرفة الصغيرة التي تُدعى فصلًا، تجد الطالب منكمشًا، منكفئًا على كتابه، ذراعٌ تكتب، وأخرى تحتكّ بجاره وتت碰ه. يحاول أن يمدّ عنقه قليلًا ليرى المعلّم، يسمع صوته ممزوجًا باللا هدوء، كأنّه قادم من مكانٍ آخر، حتى تفاصيل الدرس تتبعثر في الطريق، يتخطفها الزحام قبل أن تصل. حينها يبدأ العقل بالتشتّت، فلا المعلومات تصل كاملة، ولا العين تلمح السطر بوضوح، ولا الأذن تملك طمأنينة الإصغاء.

أمّا المعلّم، فقصته أشبه بمحاولة رسم لوحة على ورقٍ يهتزّ بفعل الرياح، فكل لمسة من فرشاته تتلاشى قبل أن تتّضح. يدخل الفصل وهو يحمل رسالته، راغبًا في أن يغرس بذور الفهم ويوقظ العقول، لكنه يجد نفسه أمام شبكة من الأجساد المتقاربة، يوزّع صوته على عشرات الآذان، فلا يدري هل وصل أم ضاع. وبدلًا من أن يكون مربّيًا يُلهم، يتحوّل إلى موزّع معلومات، ينطفئ داخله شيء من الشغف، ويزداد على كاهله كثير من الإرهاق، كأنّه طائر يحاول أن يشدو وسط سربٍ من الطيور، فلا يصل صوته للجميع.

في مثل هذه الأجواء، يملأ التوتر الفصل؛ احتكاكات مستمرة بين الأجساد التي فقدت مساحتها الخاصة، وخوفٌ دفين يعتري الطالب أن يضيع اجتهاده، وشعورٌ داخلي لدى المعلّم أنّه يصرخ في فراغ. الفصل الذي من المفترض أن يكون مكانًا للطمأنينة، والحوار، والبحث عن المعرفة، يتحوّل إلى غرفة تضيق جدرانها بمن فيها. وهكذا يذوي الحافز شيئًا فشيئًا، فيتراجع الاندفاع نحو التعلّم، لا لأن الفكرة فقيرة، بل لأن المكان لا يتّسع لاحتضانها.

وفي مواجهة هذا التحدّي، يمكن أن يكون الفصل كما ينبغي أن يكون: فضاءً مُتّسِعًا يحتضن العقول، حيث يجد كل طالب مكانه الطبيعي، تتوزّع المقاعد في انسجام، لكل عقلٍ مساحة مخصّصة تسمح له بالتركيز، ولكل فكرةٍ مجالها للظهور، ولكل سؤالٍ حقّه من الانتباه. ويمكن تقسيم الحضور إلى مجموعات تتبادل الانتفاع والتفاعل، وباستخدام وسائل تعليمية حديثة ومبتكرة يمكن حماية تركيز الطالب، ليجد المعلّم نفسه قريبًا من كل ذهن، قادرًا على توجيه كل سؤال وإشعال فضول كل عقل.

فالتعليم في جوهره لا يُقاس بالعدد، وتكدّس الطلاب في مكانٍ واحد لا يبني عقولًا. والنتيجة: طلاب اعتادوا أن يُنظر إليهم كأعداد تُضاف إلى قوائم الحضور والنجاح، ومعلّمون منهكون فقدوا بريق رسالتهم. الفصل المكتظ كبُستانٍ جُعلت فيه أشجارٌ أكثر مما يحتمل، فتشابكت حتى حجبت الشمس عن بعضها، وضاقت التربة على جذورها، فانطفأ ثمرها قبل أن يولد. كذلك الطالب حين يُحاط بالزحام دون أن يُعطى مساحته، يخسر فرصته في النمو والازدهار.

إنّ التعليم لقاءٌ إنساني بين عقلين وقلبين، بين من يُعلّم ومن يتعلّم. والأمل أن يُعاد النظر إلى الطالب بوصفه إنسانًا فريدًا، لا جزءًا من كتلة، وإلى المعلّم بوصفه شاهدًا على ولادة العقول. نحتاج أن نتصوّر الفصلَ فضاءً تتوزّع فيه المقاعد بانتظام، كما تتوزّع النجوم في السماء، لكل طالبٍ مكانه، ولكل صوتٍ صداه، ولكل فكرةٍ حقّها، ليفيض إشراقًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى