مقالات

أين أختفى جاري

أ. هشام نتو

العلاقات الإجتماعية التي نعيشها في أسرنا تختلف من مجتمع إلى آخر ومن بيئة إلى أخرى ومن أسر لأسر ولكن هناك علاقة خارج الأسر لها خصوصية وتعامل من نوع خاص هي العلاقة مع الجار وهي جزء مهم من النسيج الإجتماعي السعودي العربي المسلم وهو ما يميز به المجتمع المسلم في جميع أقطار العالم على مر التاريخ، وهو من الحياة المجتمعية السامية بين السكان عندما تبنى على الإحترام والتقدير فإنها تسهم في خلق بيئة مجتمعية صحية مناسبة ومريحة للعيش والتعايش مع الآخرين فهي تُكون علاقة مبنية على التقارب الجيد والتواصل البناء وإحترام الخصوصية وحفظ الأعراض وكف الأذى وتقبل الرأي الآخر .

بل أنه قد يصل بالجار إلى التحكيم بين الجيران في إصلاح ذات البين بما وصل له من مكانة مجتمعية من الناحية العلمية والدينية.. وقد تكون علاقة مصاهرة بين الجيران فتبنى علاقة متينة وقوية متبادل فيها التعامل الإيجابي والتكافل الإجتماعي البناء.

ومع سمو العلاقة مع الجار لا تسلم من تعكير صفوها وتكدر الخاطر من تصرفات أحداث الأحلام وكثير من علاقات الجيرة مؤخراً تقطع ويصبح الجيران أعداء ما لم يكن بنهم رجل رشيد يحكم العقل ويؤدب المسبب ويحفظ كرامة الجار، العلاقة مع الجار لها طابع مختلف عن أي علاقة تكون بين الأفراد والمجتمعات الأسرية.

العلاقة بين الجيران علاقة إخوة أسسها ديننا الحنيف وجعل لها شريعة في التعامل بكل أحوال الجيرة سلوك التعامل وحفظ العرض والإطعام وتلمس الحاجة وحفظ الكرامة وزيارة المريض وتشييع المتوفي ودفنه وتعزية أهل والدعم والمساندة في جوانب الحياة وغيرها مما تذكر ولا تنتهي إلى هذا بل تجد فيها الترابط والمعاضدة في الشدة. علاقة تنشأ ضعيفة خفيفة وتنمو وتتطور إلى أن يصبح الجار أقرب من بعض أفراد الأسرة نتيجة حسن الجوار.

في حداثة عمري عشت في كنف أسرة الجار فكانت البيوت بيتا واحداً وابوابها لا تغلق والأسر أسرة واحدة الجميع مرحب بالكل. فكان الجار في مقام الوالد ففي غيابة يحرس بيت جاره ويؤدب أبناءه بنهرهم وقد يصل لضربهم لتقويم سلوكهم وكنا نخشى أن نشتكي لوالدينا فيضربوننا لأن الجار ثقة لديهم.
ولا أنسى تلك العبارات العتيقة عندما يصرخ على “أكسر العتبة وأعلق الباب” جملة مفادها ومضمونها الوعد والوعيد إن تكرر منك الفعل فلم يشتمونا أو يسمعونا كلام خارج عن الأدب حتى في زجرهم لنا تتأصل التربية وحسن التعامل وجملة أخرى “إجعل أمك ما تجيب غيرك” وكنا نغضب ونرد نقول إلا تجيب لم نستوعب الكلمة وكبرنا وضحكنا بعد فهمنا لها.

كانت الجارة أخت الوالدة ومساندتها في ولادتها وداعمتها في مناسباتها فتراها في الأتراح قبل الأفراح علاقة جيران يصعب تعويضها في عصرنا الحاضر التي كثر فيها قطع العلاقة بأتفه سبب والزهد في التواصل البدني والجفاء في التعامل والبرود في المودة وأني أرجئ ذلك إلى التطور الحضاري في المجتمع وإختلاف الثقافات المجتمعية وطبيعة التربية الحديثة الدخيلة على الثقافة المجتمعية نتيجة تداخل كثير من الجنسيات المختلفة الحديثة على المجتمع السعودي مما يختلف مفهوم الجيرة لديهم بسبب إنفتاح تلك المجتمعات في أوطانهم الأصلية التي أجبرتهم الظروف على الترحال لتلمس أبواب الرزق أو لأسباب دينية فقد نقلوا معهم سلوكيات تعاملهم وإنفتاحهم المجتمعي الذي أثر سلب على الثقافة المجتمعية بالمملكة المحافظة مع تواجد بعض منهم مسبقاً ولكن يختلفون عنهم تماماً.

الجيران هم ذخيرة العلاقات المجتمعية وتكوين نسيجه المجتمعي فتجد رجالها ونساؤها عماد تلك العلاقة وأسباب توازنها وإمتدادها قال الرسول- صلى الله عليه وسلم- “مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ضننت أنه سيورثه”.

قد نشأت في حقبة زمنية بعتيبية مكة تلك الحارة العتيقة الزاهرة بأهلها المتأصل في ساكنيها المروءة والأدب والإحترام والشهامة وكرم الأخلاق مثلها مثل باقي حارات مكة العتيقة فلا يزيد حي على آخر إلا بكرم الأخلاق وحسن الجوار فلا أنسى من أصحاب المهن جيراننا:
سالم حديدي الفران وجميل حلواني معلم الطرمبة وشيخ القصابين (الجزارين) محمود مدني ونسيبة عبد الكريم مدني والبقالين محمد أبو حمامة وسعد بن جري وسعد الشدوي ومعلم البناء عوض مغربي وأبنائه محمد والأستاذ عبد الرزاق وسالم بأطيب تاجر مواد البناء نار على علم والمطبقاني صالح أبو هاني والنجار السيد عقيل علوي وبيت نوح معلم الحلاوة الطحينية.

وسكان الحي: وبيت اللبان ومن أبنائهم طلال وعلي وبيت البطاطي ومن أبنائهم عبد الله وعمر وبيت الساعاتي ومن أبنائهم عماد وعدنان وعادل والجار عايض اللحياني ومن أبنائه عبد الرحمن وعبد الرؤوف وعاصم وخالد وحاتم وبسام وبيت عبد الفتاح الموسى ومن أبنائهم أحمد وبيت المرزا ومن أبنائهم عدنان وإسماعيل والأستاذ عبد الله معلم الرياضيات وبيت الغامدي ومن أبنائهم خالد وأكرم وهاني وبيت عجب ومن أبنائهم الأستاذ ياسر وأخيه صلاح والجار مسعود أبو كلابب وأبنه غازي وبيت اللواء سليمان وصل الحربي والأستاذ عبدالله وصل والضابط محمد وصل وبيت السيد معوض وأبنائه سمير ومحمد وبيت مختار وباقاسي وأولاده فيصل وبيت تحسين المولد عيسى وصالح وعبدالرحمن ومشعل، وبيت عبدالواحد عبد الخير ومن أبنائه بندر وبيت الدعوجي ومن ابنائه عاثم وعصام وعماد وعلاء وبيت الجيزاني ومن أبنائه سامي والجار عبد القادر فلاته وأبنائه محمد وياسر وحاتم وفي حارة الفلاليت ابو خداش يرحمه الله وأخيه عيسى وأقاربهم عباس وفائز وبيت صالح قفاص وأبنه محمد وبيت الشريف ثلاب ومن أبنائهم الأستاذ سامي والأستاذ تركي وبسام وبيت المولد معلم البناء عيد ومن أبنائهم عياد ومحمد صالح وعادل وسلمان وأحمد والحايين محمد صالح وأبنه سامي وهاني وبيت معتق اللحياني يرحمه الله ومن أبنائهم الأستاذ معتوق وياسر ومحمد وأحمد وغيرهم وبيت مولانا وبيت با سلامه وأبنه عبد العزيز وبيت عبد الله نجار ومن أبنائهم محمد وفوزي وزكي وبيت الرويس ومن أبنائهم أشهرهم الضابط الشهيد فيصل وبيت الهواري ومن أبنائهم صلاح عدنان وبيت الأزهري ومن أبنائهم حسن وأحمد ومحمد وبيت السفياني عم حامد وبيت الزويد ومن أبنائهم محمد ويوسف وإسماعيل وإبراهيم وبيت عايل ومنهم الدكتور وأشهرهم حسن عايل وبيت الخلف وبيت القمرين وغيرهم كثر لا يتسع المقال لذكرهم.

وممن أستوطنوا مكة ولا ننساهم فقد عاشوا وتعايشوا معنا وأخذوا من طباع المجتمع المكي منهم البقال أمين وصاحب المغسله الحبابي وقايد البقال وحسان ثابت معلم مخبز التميس وأبنه محمد واخوه سيف وأبنه محفوظ وأحمد القهوجي صاحب أشهر قهوة (مقهى شعبي) في شارع العتيبية العام في التسعينيات الهجرية والفوال قايد اليماني وبيت بن سلمه ومن أبنائهم محمد وحامد وأحمد وبيت سليمان الهندي صاحب “قدر الرجبية” ومن ابنائهم الحلاقين حسين ويعقوب وبيت القنصل اليمني ومن أبنائهم مطهر وحسين وعبد الكريم.

ومنهم الجيران معلم البناء أبو ماهر عبد الغني عثمان السوري وأبن بلده معلم البناء صبري وبيت الشربيني ومن أبنائهم محمد ومحمود وبيت فتحي المصري.

أنا هنا أتكلم عن حقبة زمنية عطره قرابة خمس عقود ونيف تباين فيها طباع كل بيت وتباينت الإهتمامات ولكن بقت تلك السلوكيات الجميلة وحسن الجوار التي أستعمرت نفوسنا وسكنت أفكارنا وتغلبت على طباعنا سلوكيات التي تحكي تربية أصيلة من خلف جيل أصيل.

وكانت هناك عادة بين الجيران قلة في هذا الزمان والتطور الحضاري ولكنها كانت مستمرة خلال السنة وتكثر بشكل ملحوظ خلال شهر رمضان أو في المناسبات الإجتماعية الدينية مثل رمضان والأعياد وهي الطبق الذي يلف من بيت لآخر ينتقل من أسرى لأخرى يحمل في داخلة طعمه وهذا إمتثال حديث أبي ذر قال: قال رسول الله ﷺ: (يا أبا ذر، إذا طبخت مرقت فأكثر مائها أي: إذا طبخت لحماً فأكثر مائه ، وتعاهد جيرانك).
إن مرور الطبق على الجيران أضاع هوية مالكة وأصبح في كل بيت ففي رمضان يقدم فيه شيء من أطعمة الإفطار وفي عيد الفطر يرسل فيه شيء من الدبيازه وفي عيد الحج يرسل فيه المعمول والغريبة، وبعض الأسر المعسرة يعيدون الطبق وفيه سكر.

فنجد الجار منهم في مناسبات جاره ويعلم أن بيته لا يتسع فيفتح بيته ويخبر جاره بإمكانية أستخدام المجلس لإستقبال من قدم إليه وفي الأفراح كان الجميع يتعاون بدعم الأسر بالأواني الخاصة بالطبخ أو الشاي أو القهوة ومنهم من يقدم الزل أو شراء الأرز أو الدقيق أو تنكات السمن فلا يشعر صاحب المناسبة بثقلها بل بدفء الجيران وإحتوائهم له.

ولكن في الآونة الأخيرة أصبح هناك فتوراً في التواصل بين الجيران وبرود في المودة إلى القطيعة نسأل الله السلامة والعافية، قد يكون ذاك بسبب خلاف أو سوء فهم للمواقف وتسرع في الحكم.

العجيب أن هناك سلوكاً دخيلاً على المجتمعات وهو إنه لا يرى التواصل بين الجيران ولا مشاركتهم أتراحهم وأفراحهم بل يلزم بيته مخافة الوقوع في مشاكل والغريب أن ذلك السلوك وصل للأقارب والأهل فلا يعرف لها سبب محدد ولكن عرفت عواقبها.

ومن السلوكيات الخاطئة أن الشخص أصبح لا يأمن من تصرفات أبناء جاره في تلفيات المركبات أو مضايقة في مواقفها أصبحنا نفتقد الجار وهو في الشقة التي بجانبنا لا أراه إلا نادراً او في مصعد العمارة أو أثناء الخروج من المسجد، وأن تغيبت لا يسأل عنك أصبح الشخص الآن يعيش نوعاً من الغربة من تواجد الجيران بل أن منهم من تدعوه لزيارتك فتراه زاهداً غير متجاوب، مع تواجد بعض الأسر التي تحافظ بشكل كبير على التواصل وتفتح بيتها لإستقبال الأهل والجيران في الأعياد والمناسبات المجتمعية مما يكلفهم الكثير ولكن تستقبل تلك المبادرات ببرود من الجيران.

سلوكيات داهمت بعض المجتمعات غريبة عنها وليست من ثقافتها المجتمعية العريقة هل بسبب إختلاف نمط السكن من حارة إلى مخططات سكنية أم بسبب أساليب التربية الأسرية الحديثة لأبنائهم الدخيلة على المجتمعات التي نتج عنها شخوص لا تهتم بالتواصل المجتمعي البناء ومبادرة التواصل.

أين الجار الذي يتفقد جاره في جماعة المسجد فيعود يبحث عنه؟
أين الجار الذي يتلمس حالاً جارياً ويدعمه دون التشهير به في وسائل التواصل!
أين الجار الذي يتعاهد جاره بالزيارة من حين لآخر!
أين الجار الذي يستر عيب جاره ولا يفضحه؟
أين الجار الذي يحفظ كرامة جاره في حضوره وغيابة؟

أين الجارة التي تزور جارتها حين ولادتها ولا تتركها حتى تشد حيلها؟
أين الجارة التي تتلمس حال جارتها وتجبر خاطرها؟
أين الجارة التي تصبر جارتها على سلوك زوجها لأجل عمار بيتها؟
أين الجارة تساير جارتها بما لا تساير به أهلها..؟
أين الجارة التي برى تربيتها في سلوك بناتها..؟

أين أبن الجار ولد الحارة وليس ولد الشارع..؟
أين بنت الجار أخت بنتي وصديقتها..؟

إن المجتمعات العربية المسلمة أفتقدت شخصية مجتمعية وأخلاقيات وسلوكيات مهمة في تكوين نسيجها وترابطها ولم يبق منها غير كبارها التي يخشى برحيلهم ينتهي ذكر الجار ويبقى ذكر الساكن الجديد فقط أولئك اللذين مازالوا يكابدون للحفاظ على تلك العلاقة الماسية بين الجيران والتي تقابل بفتور وبرود غير منطقي.

مقالات ذات صلة

‫22 تعليقات

  1. شكرا علي المقال الرائع أبدعت في السرد أبو انس

    وإنت باقي في ذاكرتنا من افضل حراس المرمي في فريق الحاره وأخوك عصام صديق الطفوله

  2. كتبت اخي هشام فحركت الذكريات ورجع بي الزمن لايام الطفوله في هذه الحاره العظيمه بأهلها وناسها الطيبين فأن احد هذه العوائل التي عاشت وترعرعت فيها واذكر الكثير من هذه العوائل التى ذكرتها منها العم عجب وابنائه سعود وياسر وصلاح وايضا العم مولانا والنجار عقيل والعم اسماعيل الحازمي والاستاذ غازي وثلاب بن جساس والكثير منهم ..
    انا ابن الشيخ/ علي الرويس واخو الشهيد المقدم/ فيصل الرويس رحمة الله عليهم جميعاً ..
    لافض فوك اخي هشام نتو دائماً مبدع في طرحك بارك الله فيك ..

  3. ما شاء الله.
    سرد جميل
    يحكي واقع شبه مغيب حاليا،
    وحمد لله اني عشته وتمتعة بطفولة جميلة بين الجيران. كنا بيت واحد.

  4. مقال …
    يجسد عمق المحبة لجيرانك
    وذكرك لأسمائهم

    بوركت أيها النبيل????

  5. جزاك الله خير يابو أنس على هذا الطرح.

    فرق كبير بين الجيل الاول في التعامل والإيثار وحب الآخرين وبين هذا الجيل نسأل الله السلامه بارك الله فيك.

  6. شكرا ابو انس على المقال

    ماشاءالله مقال شيّق وجميل غطّى جوانب كثيره في حياة الجيران .افتقدناه الآن

  7. بارك الله فيك يا ابو انس وتسلم اناملك
    من جد
    تغيرت السلوكيات
    زمان كنا نذهب مع الوالدة عند الجيران
    سواء في نفس العمارة او جمب بيتنا
    الاَن
    لايمكن الا بمواعيد
    حتى لو كانوا
    من القرايب
    اتذكر
    ذهبنا نعيد على ناس ف العيد
    لم يستقبلونا
    وردونا
    فعدنا ادراجنا
    من حيث اتينا????

    ظننت ان العادات ستبقى على حالها
    لكن دوام الحال
    من المحال

  8. شكرا ابو انس على جميل ما كتبت من ذكريات الجيران وحقوقهم

    ولكن … كيف جمعت هذه الحصيلة جيدة ورائعة … اندثرت بفعل الماديات ولا اعرف لها تفسير … كنا في الطايف نروح عند جيراننا عصر الجمعة وقت الدراسة ومنها للمدرسة ونعود الجمعة الثانية اسمه تغيير عتبة ولاقرابة بيينا وحتى اخواتي لما تزوجوا يحسبوا انهم قرايبنا هذا قليل مماكان

  9. كتبت فأجدت وأفدت وحفظت حقوق جيرانك بشكل خاص وحقوق الجيران بشكل عام

    لا فض فوك ولا عاش شانؤوك

    سلمت يمينك وسلم بنانك

  10. احسنت الإختيار يابو انس بيض الله وجهك موضوع جميل جدا أختفاء الجار لله درك مبدع أخي هشام شدني الموضوع بارك الله فيك كاتبنا المتألق

    1. سلم الله الكاتب اسهب في الكتابه واثار في داخلنا المشاعر والحنين الى الماضي الجميل
      ونحس ان في داخل اعماق الكاتب حرارة وشوق مع حرقة لما نحن عليه الله النستعان
      ويتطلع الى تحسن الوضع المجتمي
      والحارة التي كتب عنها انا من ابنائها وعدد من ذكر من الاسماء معروفين لدي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى