مواقف تربوية

أ. احمد التهامي
في أحد الأعوام، كنت معلّمًا للصف الأول الابتدائي، وأثناء الأسبوع التمهيدي، جاءني أحد أولياء الأمور يشكو بحزن عن حالة ابنه النفسية تجاه المدرسة. أخبرني أن ابنه خاض تجربة سلبية في عامه الدراسي السابق، حين التحق بمدرسة أخرى، وتعرّض فيها لصيحة قاسية من معلمه عند تأخره عن الحصة الأولى.. تلك اللحظة، كما وصفها الأب، تسببت للطفل بعقدة من المدرسة، جعلته يرفض الذهاب إليها مجددًا، ويصرّ على ملازمة والده أينما ذهب.
قال الأب بأسى: كلما قلت له: سأُسجّلك في المدرسة، يرفض بشدة، ويقول: لا أريد. الآن لا يستطيع حتى الجلوس بمفرده، بل يتمسّك بي ويطلب أن أبقى معه، وأنا موظف ومسؤولياتي لا تسمح لي بذلك.”
طمأنته وقلت: “خيرًا إن شاء الله.”
ومضى الأسبوع التمهيدي، وأنا ألاحظ تمسك الطفل بوالده بشكل واضح.. كلما حاول الوالد مغادرة الفصل، طارده الابن باكيًا، يصرّ على الذهاب معه.. كنت أقول لنفسي: “إنها مسألة وقت، وسيتأقلم الطفل.”
ولكن مع بداية الأسبوع الأول من الدراسة، استمر الحال كما هو، بل أصبح الطفل يرفض تمامًا فكرة بقاء والده خارج الفصل. وفي أحد الأيام، قررت أن أضع حدًا لهذا الوضع.
استدعيت والده وقلت له: “اقترب من باب الفصل، وغادر بهدوء. سأعتني به.”
تردد الوالد وقال: “سيلاحقني!”
فقلت: “لن يحدث. فقط ثق بي.”
وضعت الطفل في آخر الصف، وانتظرت خروج والده، ثم أغلقت الباب، وجلست بجوار الطفل، الذي أسرع نحوي باكيًا يصرخ: “أريد الذهاب مع أبي!”
هدّأته بلطف وقلت: “والدك لديه عمل، وسيعود إليك في نهاية اليوم.”
حاول التحايل: “أريد الذهاب إلى دورة المياه.”
فقلت: “بعد خمس دقائق، حتى أتأكد أن والدك غادر المدرسة.”
ظل يحاول الخروج، لكنني كنت حازمًا بلطافة.. وعندما شعر الطفل أن البقاء أمر واقع، قال لي:
“يا أستاذ، هل يمكنني الاتصال بوالدي؟”
قلت: “نعم، بعد هذه الحصة.”
كانت الحصة الثانية تربية بدنية، فوجدت فيها فرصة مثالية لبناء ثقته.. نظرت إليه وقلت:
“أنت اليوم كابتن فريق الصف!”
ابتسم بخجل، ثم أرسلته إلى المدير ليُحضر الكرة، ورافقته مع زملائه إلى الملعب، وهناك بدأت أرفع معنوياته: “صفقوا لمهند… مهند بطلنا اليوم!”
كان يومًا فارقًا.. رأيت الخوف يتراجع من عينيه شيئًا فشيئًا.. ومنذ ذلك اليوم، لم يطلب مرافقة والده، بل أصبح كابتن الفريق الدائم، وواحدًا من أنشط طلاب الصف.
واليوم، مهند على مشارف إنهاء المرحلة الثانوية، يستعد لدخول الجامعة، ويخطو بثقة نحو مستقبله بإذن الله، ليكون أحد أبناء الوطن المخلصين، في أرقى المناصب، يخدم دينه ووطنه.