مقالات

الحج .. وأيام القرية 

Listen to this article

محمد بن جبران

كانت تمر أيام غريبة وجميلة على القرية في مواسم الحج -طبعا عندما كنت بعد طفلا – فجأة تخلو طرقاتها وحقولها من الرجال، وكأن الفقد أصابها، يذهبون إلى مكة للحج والعمل والتجارة، التجارة التي لم يكونوا ماهرين فيها يوما من الأيام.

أحدهم وربما كان آخرهم رأيته يعد غنمه واحده بعد الأخرى، قبل أن يدفع بها داخل صندوق الشاحنة الواقفة منذ مساء البارحة، استعدادا للسفر إلى مكة، وعلى سلم الشاحنة مجموعة من النساء يحاولن في جهد كبير الصعود إلى الطبقة العليا من صندوقها بعد أن احتلت الأغنام الطبقة السفلى.

وفي الطرف الآخر من القرية كنت اسمع هدير سيارات الحجاج اليمنيين، وهي تمر في طريقها إلى المشاعر المقدسة، مناظر الركاب وهم يرتدون الإحرام الأبيض غير مألوفة، لكنها تثير الفضول والفرجة. المثير أن الرياح في ساحة القرية كانت تهب من جميع الجهات وفي نفس الزمن، أو هكذا بدت لي الأجواء حينها.

في ذلك الوقت كنت أتصور مكة تصورا مبهما غير واضح، ولا أعرف ما الذي يحدث على أرضها بالضبط، سوى ما نقله صوت شجي إلى مخيلتي وهو يغني؛ يا حادي القوم، يصف فيها حركة الحجيج على صعيد المشاعر وفي صحن الطواف، صدح بها ذات يوم ذلك المغني من اذاعة الرياض، كان صوته يأتي من خلال نافذة منزل عجوز فقد الحماس في الخروج من بيته، كان ضجيج مذياعه يعم أرجاء القرية صباح مساء.

صوت التكبير والتهليل في القرية مختلف أو تستطيع أن تقول مختفٍ ما عدا صباح العيد حين يردده في المصلى مجموعة صغيرة من كبار السن.

الاستعداد ليوم النحر له طقسه الخاص، تصاب فيه النساء بالحيرة وأحيانا بالإحباط إن لم يجدن من يقوم بذبح أضحياتهن، اتفق ذات مرة أن شاهدت امرأة تحمل عبء ذبح أضحيتها لوحدها.

يظل السكون يحيط بالقرية أيامًا معدودات لا يقطعه غير عواء الكلاب الضالة التي يرجمها الأطفال الأشقياء بالحجارة.

 لا يدوم التوقف طويلا، فسرعان ما تدب الحياة في أوصال القرية من جديد، نعرف ذلك من خلال الفرح الذي يكسو محيا النساء وتوهج أحاديثهن الجانبية أثناء حركتهن الدؤوبة في طرقات القرية وقد ارتدين أفضل زينتهن لاستقبال أزواجهن وأقربائهن القادمين من الحج، كان الأطفال الأكثر بهجة وهم يصطفون انتظارا لحصتهم من حلوى الحاج. 

كنت سعيدا وأنا أرى تلك المناظر على مدى سنوات، أما الآن، فقد تغير كل شيء، لم تعد تلك المظاهر موجودة ولا المشاعر، اختفت، وغادرت إلى الأبد، رغم أن الرياح ما زالت تهب ومن جميع الاتجاهات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى