في جلسة سمر جداوية مع الأصدقاء، وأمامنا (شَبّة الضو) على أحد تلال طريق هدى الشام، وتحت معطف ليل ديسمبر اللطيف، دار نقاشُنا – في بعض وقته – حول ما رآه الرفاق جديرًا بالحوار، خصوصًا أنهم أصحاب خبرات متنوّعة وعريضة في الحياة. ….. قال أحدهم: في تقديري، حين يتجاوز المرءُ الستين، يصبح من الحكمة أن “يرمي الدنيا وراء ظهره قليلًا”؛ لا يعتزل كل شيء، ولا يغلق أبواب الحياة، لكنه يخفّف من لهاثه المتسارع، ويعيد ترتيب أولوياته بعيدًا عن الضجيج الذي كان يظنه ضرورة. في تلك المرحلة، يدرك الإنسان أن كثيرًا مما حمله على كتفيه لم يكن أثقالًا حقيقية، بل ظلالًا صنعتها رغبات الآخرين وتوقّعات المجتمع. وحين يتحرر من ذلك، يستطيع أن ينفض عن ثوبه ما تراكم من صخب العمر، ليغتسل في نهر السكينة، ويستعيد وجهه الأصيل الذي ضاع بين مشاغل وسباقات لا تنتهي.
…… ردّ آخر: يا صديقي، أتريد الستيني أن ينطوي على نفسه، و”يتحرك بالمِلِّي”، ويدع الفرص تتفلت من بين يديه، وهو ممسك بما تسميه أنت حكمة مثقلة بالزهد والتصوف، ما قد يضرّ صحته ويدفعه إلى الاكتئاب؟ ….. عاد الأول مجيبًا: ومن قال لك إنني أدعوهم إلى أقفاص تحرمهم متعة ما بعد التقاعد؟ المقصود حياة فيها بساطة ومتعة تناسب العمر، تعطي ولا ترهق، تمنح ولا تستنزف. فإن فعل، صار ابن حكمةٍ نضجت من قلب التجربة. أمّا إن تعامى واستسلم لدوامة الدنيا كما اعتاد، ظلّ يقدّم شيخوخته فريسةً لأنياب لا ترتوي. فالحكمة ليست في العمر نفسه، بل في المسافة التي يضعها الإنسان بينه وبين ما يرهقه. ….. ومن بعيد جاء صوت رخيم من ثالث، بعد أن ارتشف من فنجان شايه المنعنع قائلاً: يا رفاق، منذ المدرسة ونحن نسمع: “اتعب الآن واستمتع لاحقًا”. ومع الوقت تبيّن لي أنها نصف حقيقة فقط. فهناك من يتعب الآن… ثم يتعب لاحقًا، (طول عمره وهو تعبان). وهناك من يستمتع الآن… ثم يستمتع لاحقًا أيضًا، لأنه اختار الطريق الذي لا يبتلعه. ………. ثم أنه كان شبه اتفاقٍ بيننا أن “كلمة السر” لا تكمن في مقدار التعب ولا حجم المتعة، بل في دقة الاختيار: أن تتعب في الطريق الصحيح لا في الطريق الأطول، وأن تستمتع بما يضيف إليك لا بما يستهلكك. …….. وفي نهاية تلك السمرة، بدا كما لو كنا على طرف اطمئنانٍ من أن المسألة ليست سباقًا بين تعب ومتعة، بل فنّ عيش: أن تعرف أين تضع قلبك، وأين تنفق عمرك، وكيف تصل إلى لحظةٍ تقول فيها: لقد عشت كما يجب… لا كما يُراد لي أن أعيش. …. وبقي أن أقول في الختام: ليتني أسمع رأي من يقرأ هذه السطور… أهو معنا فيما خرجنا به من قناعة في جلستنا تلك، أم أنه يرى أن اللهاث والركض المتسارع، حتى وإن أذابا القلب، لا بد أن يظلا على الوتيرة نفسها، في سعيٍ لا ينقطع لالتقاط الفرص حتى آخر قطرة من العمر؟