مقالات

أثر التعليم في تنمية المكان والسكان 1

Listen to this article

أ. صالح بن خميس الزهراني

يُعدّ التعليم الركيزة الأهم في بناء الإنسان وتنمية المكان، وهو المحرك الأساسي لنهضة المدن والمناطق عبر التاريخ. فحيثما ازدهر التعليم ازدهرت الحياة، وحيثما غاب العلم تراجع المجتمع في مؤشرات التطور والاقتصاد والصحة وجودة الحياة.. لنه – التعلي – بوابة الازدهار وصناعة التحول الحضاري.

ومن هذا المنطلق، سنمضي معًا في مساحةٍ من التأمل لننظر بعقلانية إلى ما يمكن أن يعيد توازن رؤيتنا نحو مستقبل التعليم، بعيدًا عن أي ممارسات قد تُضعف فرص أبنائنا – وهم في الحقيقة فرص عقول الوطن – في التحصيل العلمي.

فلا يمكن أن يُحجب التعليم الجامعي عن شباب الوطن تحت ذريعةٍ غير دقيقة، كتلك الدعوات التي تنادي بحصر التعليم العالي في برامج الدبلوم بحجة “مواءمة سوق العمل”.
لقد أثبتت التجارب أن تقييد التعليم بهذا الشكل أدى إلى هجرة سكان المناطق التي طُبِّقت فيها تلك السياسات، بعدما تحولت بعض الكليات الجامعية فيها إلى مبانٍ تمنح الدبلوم فقط، فاتجه الأهالي إلى المدن الكبرى التي تتيح فرص قبول جامعي أرحب لأبنائهم.

إن نهضة الأمم تُقاس بامتداد مؤسساتها التعليمية، وتنوع كلياتها، وتعدد تخصصاتها، وغزارة أبحاث طلابها، لا بتقليص سنوات الدراسة أو الحد من سقف الطموح العلمي. فالتدرّج الطبيعي من البكالوريوس إلى الماجستير ثم الدكتوراه هو مسار الطموح، ولا ينبغي أن يُستبدل ببرامج دبلوم لا تتجاوز مدتها سنتين.

إن فتح أبواب التعليم في مجالات المستقبل، وعلى رأسها الذكاء الاصطناعي بتخصصاته المختلفة، هو ما يصنع قوة المجتمع ويعزز نمو المعرفة والصناعة والاقتصاد، ويهيئ الوطن لتحديات القرن الحادي والعشرين.

ولهذا، دعونا نواصل طرح هذه القضايا وغيرها في المحاور التالية:

أولاً: أثر التعليم في تنمية المدن والمناطق

1. بناء رأس المال البشري

التعليم يصنع الأفراد القادرين على:

  • الإبداع والابتكار

  • إدارة الموارد بكفاءة

  • قيادة التنمية في شتى القطاعات

وحين يتكوّن رأس مال بشري مؤهل، ينعكس ذلك على الأداء الحكومي والخدمات والاقتصاد المحلي.

2. جذب الاستثمار وتنشيط الاقتصاد

المناطق ذات القوى العاملة المتعلمة تستقطب:

  • الشركات الكبرى

  • المشاريع التقنية

  • الصناعات النوعية

فالتعليم يخلق بيئة حاضنة للنمو الاقتصادي، ويزيد الدخل الفردي والجماعي، كما حدث في مدن عدة حول العالم.

3. تحسين الخدمات وازدهار البنية التحتية

التعليم يعزز:

  • جودة التخطيط العمراني

  • كفاءة إدارة المدن

  • تطوير القطاع الصحي

  • الرفع من مستوى الخدمات العامة

فوجود الجامعات مثلاً يحوّل المدن الصغيرة إلى مراكز حضارية نابضة بالحياة.

4. نشر الوعي وتعزيز المشاركة المجتمعية

المتعلمون أكثر قدرة على:

  • فهم الحقوق والواجبات

  • المشاركة في التنمية

  • حماية البيئة

  • احترام الأنظمة

وبالتالي يصبح المجتمع أكثر انضباطًا واستقرارًا.

ثانياً: أمثلة لدول ومدن نهضت بالتعليم

1. فنلندا – نموذج عالمي

كانت فنلندا دولة فقيرة بعد الحرب العالمية الثانية، لكن سياستها ركزت على:

  • تأهيل المعلمين

  • مجانية التعليم

  • تطوير المناهج

فتحوّلت خلال عقود قليلة إلى واحدة من أفضل دول العالم تعليميًا وأقواها اقتصادًا وجودة حياة.

2. سنغافورة – من جزيرة فقيرة إلى قوة اقتصادية

اعتمدت على:

  • تعليم صارم

  • توجيه الطلاب للتخصصات المستقبلية

  • ربط التعليم من غير تحدي سقف له بسوق العمل.

فأصبحت من أغنى دول العالم وأقواها في التكنولوجيا.

3. كوريا الجنوبية – معجزة التعليم

كانت قبل 60 عامًا من أفقر دول آسيا، ثم تبنّت مشروعًا وطنيًا بعنوان:
“التعليم أولاً”
فأصبحت قوة صناعية هائلة (سامسونغ – هيونداي – إل جي).

4. دبي – مدينة المعرفة في المنطقة

استثمرت في:

  • الجامعات الدولية

  • المناطق المعرفية

  • التعليم الذكي

فتحوّلت إلى مركز أعمال عالمي خلال 20 عامًا فقط.

5. المملكة العربية السعودية

شهدت المدن السعودية طفرة تنموية بفضل التعليم:

  • انتشار الجامعات والمراكز البحثية

  • إنشاء مدينة الملك عبدالله للعلوم والتقنية

  • برامج الابتعاث

  • تطوير المناهج وتوسيع التعليم المهني

واليوم أصبحت مدن مثل الرياض والظهران وجدة مراكز علمية وصناعية بارزة بفضل الاستثمار في الإنسان.


ثالثاً: أثر الجهل على حياة المجتمعات

الجهل ليس مجرد غياب للتعليم، بل هو غياب للوعي، ونتائجه خطيرة منها:

1. ضعف التنمية وتراجع الاقتصاد

لا يمكن لمجتمع جاهل أن:

  • يبتكر

  • ينافس

  • ينتج فرص عمل

  • يستثمر التكنولوجيا

فتنتشر البطالة وتتراجع مستويات المعيشة.

2. انتشار الفقر والأمراض

الجهل يؤدي إلى:

  • ضعف الوعي الصحي

  • انتشار المعتقدات الخاطئة

  • اعتماد طرق علاج غير علمية

  • التهاون في النظافة والوقاية

فتزداد معدلات الأمراض.

3. ضعف الأمن والمشكلات الاجتماعية

المجتمعات الأقل تعليمًا تعاني من:

  • ارتفاع الجريمة

  • النزاعات

  • التطرف

  • ضعف الشعور بالانتماء والمسؤولية

لأن الوعي أحد أهم مصادر الاستقرار.

4. تعطّل التنمية وتراجع الخدمات

الجهل يولّد:

  • سوء الإدارة

  • ضعف التخطيط

  • هدر المال العام

  • تأخر تنفيذ المشاريع

  • فتتراجع المدن وتفقد قدرتها على المنافسة.

الخلاصة: التعليم… مفتاح المكان والإنسان

التعليم ليس مشروعًا فرديًا بل مشروع دولة ومجتمع.
فبه تنمو المدن، وتتطور المجتمعات، ويُزال الفقر، وتُبنى الحضارات.

ولعل التجارب العالمية والعربية تُثبت حقيقة واحدة:
حيث وُجد التعليم… وُجد النجاح. 

يتبع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى