مقالات

عاد عيدكم .. تعودون له

Listen to this article

بخيت طالع الزهراني

نعتذر من عمنا المتنبي، بعد ألف سنة .. ونستسمحه هذه المرة ألا نردد معه بيته الشعري: (عيدٌ بِأَيَّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ … بِما مَضى أَم بِأَمرٍ فيكَ تَجديدُ) .. لن نخوض فيما إذا كان (أبا الطيب) متشائما، أو حكيما يقرأ المستقبل .. أو حتى (متشائلا)

سنعرض صفحا عن كل ذلك .. ونردد وننغمس في مثلنا الشعبي الجنوبي: (خذ بحزّة السعد حدّها) .. سنبتسم . نتفاءل . ونضحك

فـ الدنيا ما زالت بخير

.

ثم من جانب آخر .. فقد تزاحمت في جمجمتي حكايات قديمة، أردت أن أبثها بين يدي من يقرأ سطوري هذه

في رحلة للوراء .. وعودة بانورامية للماضي الجميل، بكل عفويته وبساطته وجماله …

على إيقاع (عاد عيدكم) … (تعودون له)

.

عندما كنا صغارنا كنا لا ننام ليلة العيد

مع أن مجتمع القرى كان ينام في رمضان عدة ساعات بالليل

الفرحة لم تكن تسعنا – حينذاك – بقدوم عيد الفطر السعيد

ملابس العيد الجديدة كنا قد (قايسناها) منذ أسبوع أو أكثر

ومعنا حق .. فقد كان العيد طقسا فرائحيا لا مثيل له

ليس لأننا سوف نلبس الجديد من الملابس، (وتلك تكفي لأن تتغشانا سحائب من البهجة)

بل لأن هناك طقوسًا أخرى تحملنا على أجنحة من الفرح، لا يمكن أن تتكرر إلا قليلا

ليلة العيد – وبعد ثبوت دخوله عبر أخبار المذياع، ذلكم الصندوق السحري الذي كان يزف لنا بشائر انبلاج أولى حلقات الفرح –

كنا نخرج من بيوتنا – نحن الصبية – نتراكض ونطير كالعصافير، بخطوات واسعة، وبعضها تكون قفزات للسماء

نتوجه مع أباءنا وأمهاتنا إلى (المَسْطح) أرض فضاء بجانب البيت – نحو “مشعال العيد” كوم عظيم من النباتات الجبلية الجافة، التي تم جمعها منذ منتصف رمضان، وها هي قد جفت وصارت هشيما، بارتفاع يقارب المترين .. نقبس الزناد في المشعال، كي يتحول كتلة لهب، ثم نصدح:

(مشعالنا مشعال عيد …. يتلحق أطراف السما)

وهكذا كانت حكاية “المشعال” ..  قصة أخرى من قصص كرنفالات العيد العفوية أيام زمان، وجبة فرائحية لا مثيل لها، وأحد مفردات العيد التراثية البهيجة.

.

القصة الأخرى .. أنه بعد صلاة الفجر – وقد شهدت ذلك – مجموعتنا في الحوزة (حارتنا) كانوا يلتقون عند أكبرهم سنًا، رأيتهم في بيت جدي رحمة الله عليه – يتقاطر الرجال حول “المَلة” موقد النار الرئيس بالبيت – لتناول القهوة والتمر.

.

ثم تتواصل سُبحة العيد تكر … نلبس ملابس العيد، نغذ السير مع كبارنا من الآباء والأجداد وبني العم نحو مصلى العيد المقام في أرض فضاء، وهناك تتزاحم الطرقات والمساريب بالتهاني والتكبيرات والعناق والمصافحة .. من القلب للقلب

.

ثم … ونحن عائدون – تكون القصة الأجمل –

نبدأ في التطواف على بيوت (لحمتنا) وهم الاخوة وبنو العم بيتا بيتا، وتلك كانت العمود الفقري للمناسبة برمتها.

سفرة جميلة بسيطة، لكنها كانت أفخم من مأدبة خمسة نجوم اليوم، بطقسها وروح أهلها وأريحيتهم، وتلك البسمات التي تمنح الجلسة كل بهارات وإبهار الجمال.

خبزة كبيرة مقناة تفوح منها رائحة الشث، يتولى (تشتيرها) تقطيعها – صاحب الدار، ثم يوزعها دائرة، ووسطها طاسة المرق وأخرى للسمن القادم من (الحلال) البقرة والشياه – الرابضة في فناء الدار، وربما طاسة ثالثة لبنا أو عسلا.

نأكل لكن دون أن نشبع – لأن (السرا) أمامنا طويل

ننتقل للبيت الأخر، ثم الذي بعده، وهكذا إلى أن ننتهي من كل البيوت

والمرأة التي يكون زوجها مسافرا أو متوفيا، تقدم عيدها، وكأن رجل البيت موجودا … (غايب لكن ملايكته حاضرة) بهذه الجملة الدارجة، كنا نسمعها من خلف باب داخلي تردد

….

وبعد العصر .. وفي اليوم الثاني والثالث … يعايد الواحد منهم – في مشوار فردي – أخواته وخالاته وأرحامه، إن في القرية أو في القرى الأخرى.

..

تنتهي أيام العيد .. وعلى لسان كل منا مازال مذاق (طعم العيد) لم يجف – شهيًا حلوًا.

في أعماقنا شعور بهجة متقد لم يخفت، فالعيد لم يخاتلنا، لم يمر خلسة أو بشكل خجول من أمامنا …

بل كان معنا شاخصًا بكامل هيئته وحبوره .. تحدث معنا، ضاحكنا، مازحنا .. وتنقل معنا في كل مكان، بل وتغدى وتعشى وسطنا ….

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى